النص الكامل لكلمة غبطة المطران مار ميلس زيا
التي القاها بذكرى (عيد الغدير) في مركز الامام المهدي
التي القاها بذكرى (عيد الغدير) في مركز الامام المهدي
الاخوة الحضور في مركز الامام المهدي الكرام
تحية طيبة
من دواعي سرورنا ان نتقدم اليكم ومن خلالكم الى عموم اخوتنا المسلمين ومراجعهم الكريمة وبالنيابة عن كنيستنا الاشورية في ابرشيات استراليا ونيوزيلاند ولبنان، باسمى ايات التهاني والتبريكات لمناسبة يوم البيعة والولاء للامام علي بن ابي طالب عليه السلام ، يوم الغدير.
واذ نحن نبارك لكم هذا اليوم ونشارككم الاحتفاء به، فاننا نستحضر فيه مبادئ ومعاني العلاقات المشتركة بين المسيحية والاسلام وبالاخص تلك التي كان الامام علي حاضراً فيها وملتزما قيمها.
حيث تفرعت عن الامام علي بن ابي طالب عليه السلام صفات العلم والحكمة والفقه والتبصر فانبعثت هذه الخصال لتتجسد في مناقبه وسيرته وسلوكه، وما المستويات الجمالية للبلاغة، في كتاب نهج البلاغة، الا شعاع من علم علي ودليل على ما امتاز به في علوم البلاغة من علم بيان وعلم المعاني وعلم البديع.
تلتقي المسيحية والاسلام في مسائل عقائدية مهمة لكونها اديان سماوية بعثت للامم لمكارم الاخلاق والتحرير من الظلمة، ولتعميم الرحمة، ناهيك عن الوصايا والقيم السامية التي حملتها لاتباعها لتنظيم قواعد الحياة وبما يحقق ارادة الخالق التي ارادها لخليقته، ومسؤولية تنشيط هذا الالتقاء واشاعة روح التآخي والتآزر وتغليبها على مساحات الاختلاف والضغينة تقع على عاتق ابناء الديانتين، خاصة في هذه المرحلة الراهنة التي تمر بها البشرية من الفقر والفراغ الروحي وغلبة للقيم المادية على قيم الحق والعداله.
الكتاب المقدس وفي سفر الخروج تحديدا نجد الله بانه (اله رحيم، رؤوف طويل الاناة كثير المراحم والوفاء يحفظ الرحمة للالوف)، والمسيح في بشارته وانجيله يقول انه جاء من اجل الرحمة وانه يبتغيها، وعلى هذا المنوال نجد ايضا ان لله في القران الكريم خزائن من الرحمة فهو الرحمن الرحيم، انه ارحم الراحمين.
ان مساحات الالتقاء بين المسيحية والاسلام تتوسع افقيا وعموديا لتشمل الالتقاء في الجغرافيا التي ظهرت فيها بما يعنيه ذلك من التقاء في الاجواء والخلفيات الثقافية والاجتماعية السائدة في زمان ومكان ظهورهما.
فالاسلام انطلق نحو سنة 600 للميلاد بجنب المسيحية في رقعة جغرافية واحدة، ومنذ ذلك الحين والبلاد العربية والإسلامية تحتضن المسيحية بكل انفتاح وتآخي، يلتقون على مبدأ العدل والعمل المشترك في سبيل تطور بلدانهم خدمة للإنسانية جمعاء.
واذا كان التاريخ الطويل هذا تخللته في بعض تفاصيله وفصوله سلبيات فانه لا يتوجب تحميلها للمبادئ والعقيدة الدينية بل لممارسات وتصرفات ونزوات المتسلطين، مثلما لا يجب بقاء البعض اسرى لها او الاقتداء بها من البعض الاخر.
بل يجب الاقتداء بالفصول المنيرة لهذا الالتقاء وما نتج عنه، حيث عندما التقت الديانة المسيحية بالاسلامية نتج غنى وتقدم حضاري وثقافي وعلمي كبير، فيحفظ لنا التاريخ الدور الكبير للمسيحيين على مر العصور، من نشاط متميز أثرى ميادين المعرفة الفكرية والاجتماعية والعلمية في المجتمعات العربية، الى حد يعجز ادراكه، ما لم تتم دراسته عن كثب من خلال الاطلاع التفصيلي للتواجد المسيحي في الجزيرة العربية قبل وبعد ظهور الإسلام.
يروي لنا الإخباريين مقدار احترام رسول الاسلام النبي محمد للمسيحية، ففي يوم فتح مكة وضع النبي يديه في الكعبة المكرمة على صورة مريم العذراء والسيد المسيح يوم أريد ازالة الصور من جدرانها وتحطيم الاصنام فيها قائلا: امحوا جميع الصور الا ما تحت يدي. فقد رأى الاسلام بالمسيحية ديناً سماوياً والمسيحيون اهل كتب،" لتجدن اقربهم مودة للذين امنوا الذين قالوا انا نصارى ذلك بان منهم قسيسين ورهبانا وانهم لا يستكبرون" المائدة 82
ونجد قوله الكريم في سورة النساء " انما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته، القاها الى مريم وروح منه" والقران دعا الى الحوار الحسن مع المسيحيين حيث قال في سورة العنكبوت " لا تجادلوا اهل الكتاب الا بالتي هي الاحسن"
وعلى هذا الاساس كان موقف الاسلام متسامحا مع المسيحية، وسبق ان كتب النبي محمد اول عقد مع اهل النجران المسيحية وأعطى لحاشيتها ذمته على أموالهم وأنفسهم وأرضهم وملتهم وغائبهم وكنائسهم وكل ما تحت أيديهم من قليل او كثير.
وتكررت العقود للنبي مع المسيحيين عدة مرات وكرر هذا الشيء الخلفاء من بعده.
وايضا، تؤكد بطون كتب التاريخ وحقائقه واحداثه اعتماد الدولة العربية الاسلامية على المسيحيين في ادارة الدولة ودواوينها لا بل تعدى الامر ليتولون الوظائف الكبيرة في الدولة، فيقول المقريزي "قلما خلا ديوان من النصارى"
وفي النهضة العربية الحديثة فقد اسهم المسيحيون في المجالات كافة وعملوا على تحديث الدولة وطرحو شعار " حب الوطن من الايمان"
ان مسيحيي المشرق ليسوا الا الابناء الاصلاء لاوطان المشرق.
فمسيحيي العراق، بلد النهرين، هم ابناء اشور وبابل الذين تشهد ارض العراق من شماله الى جنوبه ومن مشرقه الى مغربه على انتماءهم الاصيل اليه، مثلما تشهد البشرية وحضارتها على دورهم عبر التاريخ سواء ما قبل اعتناقهم المسيحية او ما بعدها.
واذا كانت متاحف العالم تحفظ الشواهد على عطاءهم الحضاري لعصور قبل الميلاد، فان مكتبات الجامعات والمعاهد الاكاديمية تحفظ عطاءهم الفكري والفلسفي والادبي لعصور ما بعد المسيحية.
اوليسوا هم الجسر الثقافي والفكري بين الشرق والاغريق والرومان.
كاشوريين مسيحيين، فاننا جزء من الوطن، بل ولا وطن من دوننا، ولا نحن من دونه.
وتحت خيمة هذا الوطن عشنا مع المسلمين، مثلما نصر على العيش معهم رغم كل شيئ. العراق الحبيب يضم المسيحيين والمسلمين والصابئة على حد سواء، في رقعة جغرافية واحدة، ويعيشون حياة مشتركة واحدة، ويربطهم مصير واحد تحت مظلة الوطن الواحد، ولهم تطلعات مستقبلية واحدة .
وللتناغم المسيحي المسلم في العراق ميزة ربانية لا نجدها في أي شعب او وطن آخر، كونهما ابناء ابينا إبراهيم، الذي ولد في جنوب العراق في مدينة اور، ومنه انحدرنا نحن الاخوة وان اختلفنا في معتقداتنا لاحقاً، الا اننا نبقى ابناء بيت واحد، واب واحد ووطن عراقي واحد، ونطمح الى مستقبل واحد.
عن كتاب دستور معالم الحكم المطبوع في مصر تاليف الامام القاضي بن عبد الله القضاعي وفي صفحة 133 ما لفظه : مر الامام علي ومعه الحارث الاعور فاذا ديراني متبتل يضرب بالناقوس فقال الامام علي: يا حارث اتعلم ما يقول هذا الناقوس؟ قال الله ورسوله وابن عم رسوله اعلم . قال انه يصف مثل خراب الدنيا يقول :
مهلا مهلا يا ابن الدنيا
مهلا مهلا ان الدنيا
قد غرتنا واستهوتنا
لسنا ندري ما فرطنا
فيها الا ان قد متنا
ما من يوم يمضي عنا
الا هدت منا ركنا
ما من يوم يمضي عنا
الا اثقل منا ظهرا
قد ضيعنا دارا تبقى
واستوطنا دارا تفنى
يا علي يا ابا الحق اليوم ابراج كنائسنا في العراق صامتة، ومقدسات كنائسنا منتهكة.
لا ادري ماذا ستقول يا ابا الحسين ان مررت بها ووجدت ان الغبار يعلوها ويعلو مقاعد الصلاة فيها وكم من ناقوس سيتحدث اليك ويقول : ما من يوم يمضي عنا الا اثقل منا ظهرا: بل وفي كنيسة سيدة النجاة مريم التي احببتها دماء الكهنة والاطفال والنسوة والشيوخ تكسيها فكم نحن بحاجة الى استحضار روحك وقيمك ودعواتك للحق الدي انت به اصبحت صاحبنا في عراق اليوم.
صَدق الشاعر المسيحي والوزير اللبناني السابق جوزيف الهاشم عندما كتب عن الامام علي قائلا :
ولوْ كان عاصَرَ عيسى في مسيرتهِ
ومريمٌ في خطى الآلامِ تنتحبُ
لثارَ كالرعد يهوي ذو الفقار على
أعناقِ "بيلاطُس البُنْطي"، ومَنْ صلَبِوا
اليوم العنف الدموي في العراق يحمل شعارات دينية متطرفة وان كان موجهاً ضد المسيحية والاسلام على حد سواء، الا ان احوال المسيحية فيه هي الاخطر من خلال ظروف القتل، الخوف، عدم استقرار، والهجرة.
ان المسيحية في العراق مهددة بالاجتثاث، وهو تهديد نتحمل جميعا مسؤولية مواجهته لما فيه من نتائج مدمرة على العراق وهويته ومستقبله.
وهل من هوية حقيقية ومستقبل كريم لوطن لا يستطيع حماية ابناءه؟
والمسلمون ومرجعياتهم الدينية ونخبهم الفكرية النيرة يتحملون الجزء الاكبر من مسؤولية هذا التحدي الى جانب اخوتهم المسيحيين ومرجعياتهم الكنسية لدحر قوى الضلم اعداء الحق والانسانيه
ان مسالة الحضور المسيحي في البلدان الاسلامية هي مهمة اسلامية في الدرجة الاولى قبل ان تكون غربية واذا نحن نقف ضد توظيف محنة المسيحيين في العراق للتدخل الخارجي، الا اننا نحث العالم الاسلامي بالمحافظة على هذا التنوع والتعدد ليكون مصدر غنى دائم وهذه هي مسؤولية يجب ان يتبناها اضافة الى رجال الدين، المثقفين ومن على جميع المنابر، حتى لا تصاب شرايين ثقافة التسامح والمحبة بالتجلط المهلك.
فازاء تنامي التيارات المتطرفة التي تجعل المسيحيين يبحثون عن اوطان اخرى يجب ان تتنامى مسؤولية حمايتهم في اوطانهم وكنائسهم لكي نتمكن معاً من المشاركة في قواعد الانتماء الى الوطن الواحد والثقافة والتاريخ الواحد، ويكون ذلك شاهداً على رحابة صدر الاسلام.
الفقر والبطالة وتدهور الاوضاع المعيشية اضافة الى افتقاد البعد الحضاري والفكري والثقافي، هي حواضن للارهاب المتطرف وهذه العوامل تهدد مستقبل العراق بأخطار وويلات جسيمة وهي اسباب لا يجوز التهاون فيها مطلقاً.
التحدي اليوم في العراق هو كيفية تحويل ارثنا وثقافتنا وتاريخنا المشترك لاكثر من 14 قرنا الى تسامح واحترام متبادل نحافظ عليه بوعي لنستشف منه افاق التسامح بين نسيج الوطن الواحد.
في الختام، يوم عيد الغدير هو يوم إيقاظ مستمر لمبادئ التسامح، يوم لرفع رايات السلام والمحبة، دفاعاً عن المظلومية، فالمسيحية والاسلامية تلتقي في الطريق الى الصراط المستقيم وفي الحق المبين طلباً للاصلاح الدنيوي والأخرة الحسنة، فهناك مساحات واسعة بيننا وجب استغلالها، لنشر الخير ومنع الشر، لتبديد الصور المغلوطة في العلاقة بين بني البشر مع اختلاف عقائدهم، فالعدل، الرحمة، المحبة والأخوة، غنى لا تضاهيها غنائم الابتعاد والانفصال بعضنا عن بعض.
حمى الهنا القدير العراق بكل فئاته وأعراقه، وسدد خطى الحكومة في تبني برامج امنية وتنموية واستثمارية ومعرفية واسعة تعيد للعراق مركزه الوهاج في امتلاك ناصية العلم والثقافة. واني لاشكركم جزيل الشكر على كرم وحفاوة استقبالكم لنا وكل عام وانتم بالف خير.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.